ضرورة الشك
بما أننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالا، وكنا، قبل حصولنا على قدرة الوعي الكاملة، نصيب تارة في أحكامنا على الأشياء و نخطئ تارة أخرى، لأجل ذلك ، كانت الأحكام ، التى كوناها على هذا النحو من التسرع ، تعوقنا عن إدراك الحقيقة، وتؤثر فينا بحيث لا يحتمل أن نتخلص منها، ما لم نعزم ، ولو مرة واحدة في حياتنا، على الشك في جميع الأشياء التي نجد فيها أقل موضع للّشك .
بل من المفيد جدا أن ننعت بالكذب كل ما تصورنا فيه أقل داع للشك ، وذلك حتى يمكننا، لو تأتى لنا اكتشاف بعض أشياء تظهر لنا بينة الصدق بالرغم من احتياطنا هذا، اعتبارها أكثر الأشياء بقينا وأيسرها معرفة.
ولكن يجب أن يلاحظ أني أقصد أننا لا نستخدم طريقة في الشك على غاية من الشمول إلا عند شروعنا في النظر في الحقيقة. إذ من المؤكد أنه فيما يتعلق بتوجيه حياتنا، كثيرا ما يلزمنا اتباع آراء هي راجحة فقط ، وذلك لأننا لو حاولنا التغلب على جميع شكوكنا، لكان في ذلك ما يكاد يفوت علينا دائما فرص العمل . وكذلك عندما تتعدد الآراء الراجحة مي موضوع واحد، ولا نستطيع ترجيح الواحد منها على الآخر، يقضي العقل باختيار رأي واحد واتباعه بعد ذلك على أنه يقيني جد اليقين .
ولكن بما أننا نقصد في الوقت الحاضر التفرغ للبحث عن الحقيقة فحسب ، فإننا سنشك أولا فيما إذا كان من الأشياء المحسوسة أو المتخيّلة، ما هو موجود حقيقة في العالم ، إذ نعلم بالتجربة أن حواسنا خدعتنا في ملابسات عديدة، وأنه من عدم الحكمة أن نثق في من خدعنا مرة؛ وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما أثناء النوم ونتخيل في وضوح عددا لا يحصى من الأشياء التي لا توجد خارج أحلامنا، ولأننا أخيرا لما كنا قد عزمنا على الشك في كل شيء ، لم تبق لدينا علامة ما تدلنا على أن أفكار الحلم أكثر كذبا من غيرها.
ويلزمنا أن نشك أيضا في سائر الأشياء التي كانت تبدو لنا فيما مضى يقينية جد اليقين ، حتى في براهين الرياضيات ومبادئها، بالرغم من أنها بينة بيانا كافيا، وذلك لأن هناك من الناس من شكّ فيها (000)0
وعندما نرفض على هذا النحو كل ما يمكن أن يناله أقل شك ، بل نعتبره كاذبا، فإنه من السهل علينا، أن نفترض أنه ليس هناك إله ولا سماء ولا أرض وأننا بدون جسم ، ولكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين عندما نشك في صحة هذه الأشياء كلها، إذ من غير المستطاع لنا أن .نفترض أن ما يفكر غير موجود بينما هو يفكر، بحيث أننا مهما نبالغ في افتراضاتنا لا نستطيع تجنب الحكم بصدق النتيجة الآتية : أفكر إذن أنا موجود. وبالتالي فهي أولى وأيقن القضايا التي تمثل لإنسان يقود فكره بنظام.