salut a tous
|
دور المثال
دور المثال:
التّعبير عن تجربة معيشة:
إن نحن تحدّثنا، في هذا الإطار، عن علاقة الفلسفة بالواقع و بالتّاريخ و بالمعيش، فلكي نبيّن أنّ هذه الممارسة النّظريّة، حتّى إذا ما التزمت بحيثيّات الجزئي و الخاصّ و المتغيّر، فلكي تنيره بشكل غير معهود، فنرتقي بذلك من مستوى الضّياع السّلبي في تفاصيل الواقع إلى مستوى ممارسة فلسفيّة تشدّنا، في واقعنا، إلى الفكرة و إلى المثال دون أن تقطع، مع ذلك، رباطنا به.
حيثما نستحضر مثالا، إذن، يجب أن نعترف، في نفس الوقت، بوجود مجهود نظريّ و فكري غايته تنظيم المعطى ضمن تصوّر فلسفي شامل. و حتّى نعايش هذه النّقلة الفكريّة من مستوى الواقع إلى مستوى التّمثّل ( أو المثال )، أقترح أن أعرض مثالا لصياغة فلسفيّة لتجربة معيشة قام بها أستاذ الفلسفة الكندي كلود كولاّن[1]، من خلالها نتبيّن سبل الارتقاء إلى مستوى النّظر العقلي:
" اخترت لهذا العمل، المتمثّل في صياغة تجربة معيشة وقع تمثّلها، أن أستند إلى مجال الفنّ و الموسيقى بوجه خاصّ. فأنا موسيقي و أحذق العزف على آلة البيانو. و لكن بالإضافة إلى ذلك أمارس نشاطات فنّية أخرى كالرّسم و التّصوير الشّمسي و ترتيب الشّعر، بحيث يمكن القول أنّي أهتمّ بكلّ ما يتعلّق بالفنّ. على أنّ ما يستثير كياني فيه هو بالأساس الموسيقى. و لكم الآن تجربتي: شرعت، في يوم ما، بتأليف مجموعة من الأغاني لحفل يتعيّن عليّ القيام به. و قد كنت أقوم بذلك في غرفة ضيّقة تتّسع فقط إلى بيانو و إلى كرسي. فمن جهة يوجد باب عمدت إلى إغلاقه، و في الجهة المقابلة، نافذة أطلّ منها على مشهد طبيعيّ. ففي عشيّة ذلك اليوم، كنت أحسّ في داخلي شيئا، قد نسمّيه إلهاما. و لعلّ ما يفسّر هذا الإلهام هو الاهتمام و الحبّ الذّي كنت أحمله، و ما زلت أحمله إلى الآن، إلى صديقتي. جلست إلى البيانو، تسندني أشعّة الشّمس الذّائبة، و شرعت في التّأليف. فانقذفت بذلك في دوّامة من الأصوات و الأحاسيس تآلفت لتشكّل، في الأخير، نغم حبّ. و قد قضّيت، في ذلك، ساعات طويلة لم أتفطّن، رغم ذلك إليها، إذ أنّني انتبهت فقط، في الأخير، إلى أنّ الدّنيا قد أظلمت، فلم يعد بإمكاني حتّى أن أرى علامات النّوتة. شكّل ذلك اليوم لحظة جميلة في حياتي انتهيت فيها إلى إنشاء لحن عذب. في الحفل أنصتت صديقتي لأوّل مرّة إلى هذه الأغنية التّي أهديتها إليها فبكت ! !
انّ قراءتي الذّاتيّة لهذه التّجربة تتمثّل في أنّ الموسيقى، بالنّسبة لي، ليست فقط صوتا أو نغما نصدره و يبقى في الذّهن. انّها أكثر من ذلك بكثير، إذ هي انفعال و إحساس عبّر عنه الفنّان و شعر به المستمع أو المتقبّل. انّ الموسيقى، إذن، لشيء عميق، من حيث أنّها مسألة باطنيّة تهمّ الإنسان في ذاته و في دواخله.
الاستنتاج الأخير: انّ الفنّ سواء تمثّل في الموسيقى أو في أيّ نشاط آخر، لغة تمكّن من التّعبير عن انفعالات و وجدانات الذّات. لا يهمّنا إن كان مثيرا للبهجة أو للحزن، حنونا أو مباشرا، رقيقا أو عنيفا، رومنسيّا أو مضحكا، بل ما يهمّنا هو كونه يمكّن من تحرّر الذّات و من إيصال شيء ما إلى الآخرين.".
اتّضح الآن، من خلال عرض هذه الصّياغة لتجربة معيشة، أنّ التّفلسف لا يشكّل تملّصا من المعيش و من اليومي و من تجربتنا مع الآخرين، بقدر ما هو ارتفاع بالواقعي الجزئي إلى مستوى التّفكير العقلاني، بحيث نعيد تنظيمه بالاستناد إلى قاعدة نظريّة تتميّز بالشّموليّة و الكونيّة. حينها فقط يتحوّل هذا التّجربي و الواقعي إلى مثال على فكرة أو مفهوم فلسفي. و هذا ما يقود إلى دور ثان يمكن أن يؤدّيه المثال و يتلخّص في منحه لمضمون عيني لفكرة مجرّدة.
|